الفكرالإسلامي

 

فتح مكة وتأثيره الواسع البعيد المدى

إعداد:  أسامة  نور (القاسمي)(*)

 

 

 

فتح مكة وأثره البعيد المدى

     كان من أعظم أماني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتح مكة فهي حصن الشرك، ومعقل الكفر، وهو يعلق الآمال على هداية أهلها الذين وقفوا ويقفون دائمًا في وجه الدعوة الإسلامية؛ ولكن أنّى له ذلك، وهو مرتبط بعهد مع قريش، أي بهدنة لا تحل لأحد الطرفين أن يهاحم الآخر خلالها.

نقض قريش عهد الحديبية

     في أواخر السنة الثامنة من الهجرة كان قد مضى على صلح الحديبية سنتان تقريبًا، حافظ المتعاقدان في أثنائهما على مواد المعاهدة التي كان من شروطها أنه من أحب أن يدخل في عقد قريش فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليـدخل فيه، وكانت خزاعة قد انضمت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبنوبكر دخلت في عهد قريش. وكانت بينهما عداوات قديمة هدأت فترات واشتعلت أخرى، فلما كانت الهدنة بين المسلمين وقريش انتهزتها بنوبكر فرصة وساعدتهم جماعة من قريش، فهاجموا خزاعة، وقتلوا بعضًا منهم، فلجأت خزاعة إلى حلفائها المسلمين تشكو نقض قريش وبني بكر العهد، وأرسلت وفدًا إلى رسول الله يخبره بما يحدث لهم.

     فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزعيمهم عمرو بن سالم: «نصرت يا عمرو بن سالم»، ورأى الرسول أن نقض قريش للعهد سبب قوي لفتح مكة.

الاستعداد لفتح مكة

     رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يترك لقريش فرصة يتجهزون فيها للحرب فيأخذهم على حين غفلة حتى يسلموا من غير أن تراق الدماء؛ لذلك أصدر الأوامر بالتعبة العامة. وأوصى الجيش بإخفاء الأمر حتى لا تتسرب الأخبار إلى قريش مكة. وفي الثامن من رمضان من الثامنة للهجرة تحرك جيش المسلمين من المدينة إلى مكة ليفتحها، وليضع يده على البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كلُّ أمله أن يدخل البيت الحرام من غير أن تراق قطرة دم واحدة، وفي أثناء السير انضمّ إليه جماعة من قبيلة أسلم ومزينة وغطفان وغيرها حتى بلغ عدده عشرة آلاف، وبعد أسبوع وصلوا «مر الظهران» فعسكر المسلمون فيه.

أبو سفيان يستطلع الأخبار

     وقد أمر رسول الله أن يوقد كل فرد نارًا لتظهر قوة الجيش القريب من مكة، فتلقى الرعب في قلوب قريش فتأتي صاغرة للتسليم، وكان أبو سفيان قد خرج يلتمس الأخبار، وفي جناح الظلام وعلى مقربة من نيران المسلمين لقيه العباس بن عبد المطلب فناداه، فوقف وقال له: ماوراءك؟ قال العباس: هذا رسول الله أتاكم بما لاقبل لكم به. فقال أبوسفيان: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال العباس: أنصحك بأن تركب ورائي فآتيه بك وأستأمن لك. وأردف العباس أباسفيان وسار به نحو خيمة رسول الله، يقول العباس: فلما مررت بنار عمر بن الخطاب عرف أبا سفيان، فأسرع على خيمة النبي وطلب أن يضرب عنقه، فقال العباس: إني قد أجرته، فقال النبي: اِذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به. فلما كان الإصباح جاء العباس إلى النبي وجرى الحديث الآتي:

     «ويحك يا أباسفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلاّ الله؟». أبو سفيان: ما أحلمك وأوصلك. والله قد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لكان أغنى شيئًا.

     قال الرسول: «ويحك يا أبا سفيان ألم يأن أن تعلم أني رسول الله؟» أبوسفيان: أمّا هذه فوالله إن في النفس منها حتى الآن شيئًا.

     فتدخل العباس، وقال له: ويحك أسلم قبل أن يُضرب عنقك، فأسلم، فقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا، قال رسول الله: «نعم! من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن».

دخول جيش المسلمين مكة

     وبعد ذلك أمر الرسول العباس أن يقف مع أبي سفيان على الطريق الضيّق المؤدي إلى مكة حتى تمر عليه جنود المسلمين فيراها، ليحدِّث قومه عن قوة المسلمين. ومرت القبائل بأبي سفيان وهو يسأل عن العباس، حتى قال: يا عباس ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة. وأسرع إلى مكة يصيح بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لاقبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وركب الرسول الناقة القصواء وأصدر الأوامر إلى قادة الجيش ألا تقاتل إلا إذا أُكْرِهَتْ على القتال، وساروا حتى دخلوا مكة ولم يحدث إلا مناوشات خفيفة وأهمها مالاقاه خالد بن الوليد قائد الجناح الأيمن فقد قتل حوالي عشرين رجلاً ممن وقفوا في طريقه ولم يُقْتَلْ من المسلمين سوى اثنين. ولما تم للمسلمين الاستيلاء على مكة نظر الرسول إلى البلد الأمين وإلى الجبال التي كان يأوي إليها حين يشتد به أذى قريش، فترقرقت في عينيه دمعة شكر الله، ثم سار حتى بلغ البيت الحرام، فطاف به سبعًا، ثم استلم الحجر، وتكاثر الناس حوله في المسجد فخطبهم وتلا عليهم قوله تعالى: يآ أيُّهَا النَّاسُ إنّا خَلَقْنٰكُم مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثٰى وَجَعَلْنٰكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتْقَاكُمْ إنَّ اللهَ عَلِيْمٌ خَبِيْرٌ» (الحجرات:13).

     ثم قال: يا معشر قريش ويا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. قال: «اِذهبوا فأنتم الطلقاء». وبهذه الكلمة صدر العفو العام عن أهل مكة جميعًا. وهكذا سقط أكبر معقل للوثنية في بلاد العرب في 20 رمضان سنة 8هـ.

تأثير فتح مكة الواسع المدى

     كان فتح مكة أهم فتح للإسلام والمسلمين، أكرم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم خاصة والمسلمين عامة، فقد جاء هذا الفتح المبارك بعد سنوات متواصلة من الدعوة والجهاد لتبليغ رسالة الإسلام.

     ولا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إن فتح مكة يحمل من الدلالات والفوائد والعبر ما لا يحيط به كتاب فضلاً أن يحيط به مقال أو دراسة.

     إن من أولى فوائد فتح مكة أنه انترع تلك البقعة المباركة من براثن الشرك، وضمها لحمى التوحيد؛ فقد دخل النبي مكة فكان من أول ما فعل أن كسر الأصنام المنصوبة حول الكعبة، وهو يردد قوله تعالى: «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوْقًا» (الإسراء:81)، وصعد بلال على سطح الكعبة وصدح بالأذان، فكانت كلمات تتردد في أرجاء مكة معلنة انتهاء عهد الخرافة والشرك، وبدء عصر النور والتوحيد.

     وقد كان من فوائد وأثر فتح مكة رفع سيف الكفر المسلط على رقاب المستضعفين من أهل مكة سواء ممن أسلم، أو ممن كان يرغب في الإسلام الذين أرهبهم سيف قريش، وسلبهم حقهم في اختيار الدين الحق، فجاء ذاك الفتح؛ ليرفع السيف عن رقابهم وليدخلوا في دين الله.

     ومما أسفر عنه هذا الفتح تحطيم وإزالة رهبة قريش من قلوب قبائل العرب، التي كانت تؤخر إسلامها لترى ما يؤول إليه حال قريش من نصر أو هزيمة. روى البخاري عن عمرو بن سلمة: «أن العرب كانت تَلَوَّمُ بإسلامها الفتحَ، يقولون انظروا فإن ظهر عليم فهو نبي صادق، فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم».

     وكان من أثره زيادة إيمان المؤمنين بتحقق وعد ربهم دخول البيت والطواف به، بعد أن منعهم منه المشركون، فقال سبحانه: «لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَه الرُؤيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلنّ الْـمَسد الحَرَامَ إن شَاءَ اللهُ آمِنِيْنَ مُحَلقِينَ رُؤُسَكُم وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ» (الفتح:27).

     ومن أثره تضعضع مركز الكفر والشرك في جزيرة العرب، وتحوّل رؤوس الكفر غلى القتال على جبهات ليس لها منزلة عند العرب كثقيف وهوازن، وما هي إلا جولة أو جولتان حتى خضعت جزيرة العرب للحكم الإسلامي، وأصبحت الجزيرة مركزًا لنشر الدين وانطلقت الجيوش المسلمة الفاتحة لتدك عروش كسرى وقيصر.

     ومن أهم الدلالات التي أفصح عنها فتح مكة موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلها الذين ناصبوه العداء منذ أن بدأ بتبليغ دعوته، فبعد أن أكرمه الله بدخول مكة توجه إلى أهلها ليقول لهم «ما ترون أني فاعل بكم»؟. قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: «اِذهبوا فأنتم الطلقاء» (رواه البيهقي) فياله من موقف كريم يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين.

     على كل فكان فتح مكة ترتب عليه من نتائج عظيمة، أقلها إعادة أعظم بقعة في الأرض من براثن الشرك على حمى التوحيد، وأدناها اقتران هذا الفتح المبارك بدخول الناس في دين الله أفواجًا، كما قال تعالى: «إِذَاجَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْح، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّه كَانَ تَوَّابًا». (النصر:1-3).

*  *  *



(*)      المتخرج من الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ ديوبند والحامل لشهادة الماجستير في الفلسفة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دهلي، دهلي 110007.

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ذوالحجة 1435 هـ = أكتوبر 2014م ، العدد : 12 ، السنة : 38